هل يعيد ترمب العالم إلى عصر الإمبراطوريات؟

<p>يتحرك دونالد ترمب بسرعة البرق لتغيير ملامح الشؤون الدولية المعاصرة عبر مطالب وإجراءات متتابعة (رويترز)</p>
منذ عودته إلى البيت الأبيض، أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترمب مطالب متكررة بالسيطرة على غرينلاند وقناة بنما وضم كندا إلى الولايات المتحدة، وأخيراً امتلاك قطاع غزة، كما لو أنه يعتقد أن بلاده يجب أن تكون إمبراطورية، وهو ما يحاكي بعض الاتجاهات الإمبريالية العالمية في الأعوام الأخيرة مثل حروب روسيا في جورجيا وأوكرانيا ووجودها العسكري في سوريا وعدد من الدول الأفريقية، ومثل مطالب الصين في السيطرة على مجموعة جزر في بحر الصين الجنوبي ورغبتها في استعادة تايوان، فهل يشجع ترمب عودة عصر الإمبراطوريات التي ظن كثيرون أنها انتهت منذ ستينيات القرن الـ20، وهل ينذر ذلك بانتهاء عهد الدول القومية، وإلى أي مدى يشكل عصر الإمبراطوريات خطراً على النظام الدولي القائم على القواعد والحقوق؟
تغيير ملامح العالم
يتحرك دونالد ترمب بسرعة البرق لتغيير ملامح الشؤون الدولية المعاصرة عبر مطالب وإجراءات متتابعة، إذ طالب بأن تكون كندا الولاية رقم 51 لبلاده وأن تسيطر الولايات المتحدة على جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك عضو حلف شمال الأطلسي الـ”ناتو” والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن استعادة قناة بنما، والآن يريد حتى الاستيلاء على قطاع غزة لتحويله إلى ريفييرا على شاطئ البحر المتوسط، وتضمن التحول في سياسات ترمب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية واتفاق باريس للمناخ، والتشكيك في قيمة الأمم المتحدة، وتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. ومع انهيار النظام العالمي القديم الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى نظام متعدد الأقطاب يشمل عدداً من مراكز القوة، يظهر ترمب في هذا العصر الجيوسياسي الجديد تأكيده على مبدأ القوة الخالصة عبر استخدامه التهديد المتكرر بفرض تعريفات جمركية على الخصوم والحلفاء على حد سواء، في محاولة لتأكيد نفوذ أميركا العالمي ومواقفها التفاوضية.
ولأن الولايات المتحدة هي أكبر قوة في العالم حتى الآن، يمارس ترمب هذه القوة حالياً بطرق أكثر صراحة وفجاجة في تحقيق المصالح الذاتية وتأكيد مبدأ “أميركا أولاً” الذي تعهد به خلال حملاته الانتخابية رغم التحذيرات من أن هذه السياسة من شأنها أن تتسبب بعزلة دولية للولايات المتحدة. ويعكس هذه النظرة ما قاله وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو الشهر الماضي حين وصف النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بأنه ليس عتيقاً فحسب، بل أصبح الآن سلاحاً يستخدم ضد أميركا.
نقطة تحول تاريخية
ولعل النظام الدولي الذي يتبلور بسرعة الآن مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، يتحرك في اتجاه استبدادي إمبراطوري يعكسه المد والجزر للقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية العالمية للدول الكبرى الساعية لتشكيل إمبراطوريات، بما يعيد إلى الأذهان تجارب العصور السابقة، وكيف استجابت البلدان والثقافات للحقائق الجيوسياسية المتغيرة.
وركزت الأنظمة العالمية السابقة عبر التاريخ، على أقطاب للقوة، وتشمل هذه الفترات ما يسمى “الاتفاق الأوروبي” كنظام دولي ساد بين عامي 1815 و1854 وهي الفترة التي أعقبت الحروب النابليونية، حيث وافقت القوى الأوروبية الكبرى، مثل النمسا وبريطانيا وبروسيا وروسيا، على التعاون من خلال الدبلوماسية للحفاظ على توازن القوى ومنع الصراعات واسعة النطاق في القارة وحول العالم.
كما تشمل أيضاً العالم ثنائي القطبية في فترة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، التي بدأت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك العالم أحادي القطبية للهيمنة الأميركية بعد نهاية الحرب الباردة عام 1991 والتي تعززت بعد هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001.
نهاية “باكس أميركانا”
تعرف فترات هيمنة القوة الواحدة تاريخياً باسم “باكس”، وهو مصطلح لاتيني يعني “السلام” مثل فترة “باكس رومانا” السلام الروماني خلال الإمبراطورية الرومانية (من عام 27 قبل الميلاد إلى 180 بعد الميلاد)، والسلام الصيني المتعدد في جميع أنحاء الصين (أحدثها سلالة تشينغ من عام 1644 إلى عام 1912)، والسلام المغولي (الإمبراطورية المغولية من عام 1271 إلى 1368) والسلام البريطاني (الإمبراطورية البريطانية من عام 1815 إلى 1914).
ويبدو أن ترمب عازم على تفكيك “باكس أميركانا” أو فترة الهيمنة الواحدة التي رسخت السلام الأميركي، والتي امتدت بحسب المؤرخين منذ عام 1945 إلى الوقت الحاضر، لأنه مع صعود الاستبداد الداخلي في الولايات المتحدة وفي الخارج، من خلال استخدام أساليب الإكراه والتلويح باستخدام القوة العسكرية وتجاهل القانون الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة، تنشأ عملياً هيمنة الإمبراطوريات الاستبدادية التي تعتمد على مفهوم القوة المطلقة بعيداً من احترام سيادة وحقوق الدول الأخرى.
ويتعزز العصر الجديد من خلال الصعود السريع لآسيا باعتبارها المجال الرئيس للنمو الاقتصادي والعسكري، وبخاصة الصين والهند، حيث كان لدى الدولتين الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، ثاني وثالث أكبر اقتصاد في العالم على التوالي عام 2023، وثاني ورابع أعلى مستويات الإنفاق العسكري. ومع هذا الصعود المتزامن لمراكز القوة المتعددة، يتبلور التحدي للهيمنة الأميركية الأحادية على العالم، ويتبلور نظام دولي جديد يؤكده تكيف ترمب علناً مع التعددية القطبية كما يقول أستاذ الدراسات العالمية في جامعة أوكلاند، كريس أوغدن.
من ويلسون إلى ترمب
استند النظام الدولي الحالي الذي اتسم بهيمنة الولايات المتحدة، لكنه يتدهور الآن، إلى قيم اجتماعية وسياسية واقتصادية محددة نابعة من الهوية الوطنية والخبرة التاريخية للولايات المتحدة. ووفقاً لعالم السياسة، جون إيكينبيري، فإن “أجندة الرئيس الأميركي السابق وودرو ويلسون للسلام بعد الحرب العالمية الأولى سعت إلى طرح أفكار تعكس المثل الأميركية المميزة في هذه الفترة، إذ تخيل نظاماً دولياً قائماً على الأمن الجماعي، والسيادة المشتركة، والمبادئ الليبرالية للديمقراطية، وحقوق الإنسان العالمية، والتجارة الحرة، والقانون الدولي”.
ومع تزايد هيمنة الولايات المتحدة وقوتها العسكرية في القرن الـ20، وفرت الولايات المتحدة الأمن أيضاً لدول أخرى، ومكنت هذه القوة واشنطن من إنشاء أسواق تجارية عالمية مفتوحة، فضلاً عن بناء مؤسسات عالمية أساسية مثل صندوق النقد الدولي (IMF)، والبنك الدولي (World Bank)، ومنظمة التجارة العالمية، والأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، غير أن هذه الهيمنة والسلام الأميركي ارتكزا على موافقة ودعم غالبية دول العالم على توفير الولايات المتحدة للأمن وإنتاج الثروة والتقدم الاجتماعي. وساعد الولايات المتحدة في ذلك أكثر من 800 قاعدة عسكرية منتشرة في أكثر من 80 دولة حول العالم.
لكن ترمب الآن يقوض المبادئ الأساسية لهذا النظام العالمي الليبرالي ويسرع الانزلاق نحو الاستبداد الإمبراطوري، ومثل روسيا والهند والصين، تعمل إدارة ترمب اليمينية بنشاط سريع وخلال ثلاثة أسابيع فحسب، على تفكيك الحكومة، وخلق أزمة دستورية، وازدراء القضاء، وتقييد حقوق الإنسان، ومهاجمة الأقليات، وإضعاف النظام الانتخابي، إضافة إلى التهديد باستخدام القوة ضد الحلفاء، وفرض الرسوم الجمركية عليهم لتهديد اقتصادهم وإضعافه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
محاكاة الصين وروسيا
ويبدو أن الرئيس الأميركي يعتقد أن بلاده يجب أن تكون إمبراطورية، فهو يحاكي الرئيسان الصيني شي جينبينغ، والروسي فلاديمير بوتين، اللذين قال إنه معجب بهما واللذين أظهرا بعض الميول الإمبراطورية الواضحة في السنوات الأخيرة. ففي عهد بوتين، دعمت روسيا مناطق انفصالية، مثل ترانسنيستريا وأبخازيا، وخاضت حروباً في جورجيا وأوكرانيا وتدخلت بنشاط في شؤون سوريا ودول أفريقية متنوعة، وفي عام 2022، شنت روسيا حرباً واسعة النطاق على أوكرانيا، مدعية أنها كانت تاريخياً جزءاً من روسيا، لكن التأثيرات الغربية المعادية كانت تحاول تدمير هذه الوحدة.
أما الصين فقد سيطرت على عدد من الجزر الصغيرة غير المأهولة في بحر الصين الجنوبي، وشيدت 27 منشأة على الجزر المتنازع عليها في مجموعة جزر سبراتلي وباراسيل والتي تطالب بالسيطرة عليها دول أخرى بما في ذلك فيتنام وتايوان والفيليبين وماليزيا. كما تحافظ بكين على مطالبتها بتايوان، التي تقول إنها جزء لا يتجزأ من الصين وتريد “إعادتها إلى الوطن”.
الإمبراطوريات والدول القومية
قبل أعوام، افترض معظم الناس أن عصر الإمبراطوريات انتهى وذهب بلا رجعة إلى مزبلة التاريخ، إذ كان صعود وسقوط الإمبراطوريات يهيمن على كثير من كتب التاريخ والمناهج الدراسية، ذلك أن الدول القومية لم تظهر سوى في نهاية القرن الـ18، ومع صعود هذه الدول إلى الصدارة، أظهرت عديد منها أيضاً ميولاً إمبريالية، مثل الولايات المتحدة التي كانت قد تخلصت من نير الإمبراطورية البريطانية، لكنها لم تضيع كثيراً من الوقت في توسيع حدودها غرباً، فاستحوذت بالغزو أو الشراء على مساحات شاسعة من الأراضي الجديدة، مما حول مجموعة صغيرة من ولايات الساحل الشرقي إلى إمبراطورية قارية.
وفي الوقت نفسه كانت دول قومية أخرى حديثة النشأة مثل ألمانيا وإيطاليا تطمح أيضاً إلى الاستحواذ على إمبراطوريات في الخارج، فشاركت بنجاح متفاوت في بناء ما تبين أنه إمبراطوريات استعمارية قصيرة العمر نسبياً في أفريقيا وأماكن أخرى.
ومع ذلك بدأت غالب الإمبراطوريات التقليدية في تبني جوانب مختلفة من نموذج الدولة القومية، مثل التجنيد الإجباري، والمساواة القانونية، والمشاركة السياسية. وكثيراً ما ينظر المؤرخون إلى العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية باعتبارها فترة من إنهاء الاستعمار الذي قادته القوى الإمبريالية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا، لكن الانتقال من الإمبراطورية إلى الدول القومية لم يكن سلساً على الإطلاق، إذ كانت غالب الحكومات الإمبريالية تأمل في تحويل إمبراطورياتها إلى دول أكثر مساواة، ولكن مع الاحتفاظ بدرجة من النفوذ كما حدث مع فرنسا في الجزائر وفيتنام، أو تحت ضغط اقتصادي كبير، كما حدث مع بريطانيا والهند، غير أن العصر الحقيقي للدولة القومية لم يبدأ إلا في ستينيات القرن الـ20.
عودة الإمبراطورية
والآن يتألف العالم من نحو 200 دولة مستقلة، غالبيتها العظمى دول قومية، ومع ذلك يزعم البعض أن الإمبراطوريات أو في الأقل الدول ذات الميول الإمبريالية، لم تختف تماماً، وعلى سبيل المثال، تدخلت فرنسا بصور متكررة في عدد من مستعمراتها السابقة في أفريقيا، لكنها تدخلات عسكرية لم تهدف إلى احتلال أراض جديدة بصورة دائمة.
وإذا كان من غير المرجح أن تحدث حروب غزو ضخمة أو محاولات لإنشاء إمبراطوريات خارجية جديدة في المستقبل القريب، إلا أن اللافت للنظر هو أن فلاديمير بوتين وشي جينبينغ ودونالد ترمب يستخدمون جميعاً خطاباً قومياً شرساً لتبرير مخططاتهم الإمبريالية، حيث يزعم بوتين أن أوكرانيا وروسيا لا يمكن تقسيمهما، ويلقي باللوم على من يصفهم بـ”النازيين” لمحاولتهم تحويل وجهة الدولة الشقيقة لروسيا نحو الغرب، كما يشير أستاذ التاريخ العام في جامعة ليدن إيرك ستورم.
في المقابل، يزعم شي جينبينغ في كثير من الأحيان أن الصين الشيوعية تغلبت أخيراً على قرن الإذلال، حين كانت البلاد لعبة في يد القوى الأجنبية.
ويبدو أن كلاً منهما يتوق إلى العظمة الإمبراطورية الماضية، إذ تهدف روسيا الاتحادية إلى إعادة هيمنتها على دول الاتحاد السوفياتي السابق، بينما تنظر الصين إلى إمبراطورية تشينغ التي تريد إعادة أمجادها.
المصير الواضح
لكن الحال الأميركية تبدو أكثر تعقيداً، وإن كانت في الواقع متشابهة للغاية، فالرئيس ترمب يزعم أن قناة بنما التي كانت الولايات المتحدة تديرها منذ فترة طويلة، أعيدت إلى الدولة البنمية بحماقة من الرئيس جيمي كارتر، ويزعم أنها الآن تحت سيطرة الصين، ويقول إنه سيعيدها إلى الولايات المتحدة، على رغم موافقة بنما أخيراً على الانسحاب من “مبادرة الحزام والطريق” الصينية والسماح للسفن الحربية الأميركية بالمرور عبر القناة من دون دفع رسوم.
ويشير ترمب أيضاً إلى ما يعرف باسم “المصير الواضح” لأميركا، وهو الاعتقاد السائد في القرن الـ19 بأن المستوطنين الأميركيين مقدر لهم أن يتوسعوا إلى ساحل المحيط الهادئ، ولكن في هذه الأيام، تتجه تطلعاته نحو الشمال وليس نحو الغرب، كما يريد الرئيس أن يزرع العلم الأميركي على المريخ، ويأخذ أحلامه الإمبراطورية إلى الفضاء الخارجي مع صديقه وحليفه الملياردير إيلون ماسك.
وإذا انضمت الولايات المتحدة إلى الصين وروسيا في انتهاك الحدود المعترف بها دولياً، فقد يكون النظام الدولي القائم على القواعد والحقوق في خطر، وهو ما تشي به واقعياً بعض العلامات غير الإيجابية، ومن المتوقع أن يؤدي اتخاذ خطوات لضم الأراضي بصورة غير قانونية إلى تفجير الصرح الدولي بأكمله.