ذعر الـ “بيجر” يصيب اللبنانيين بـ “فوبيا الهاتف”
<p>تكرار مشاهد انفجار “البيجر” في المدن دفع اللبنانيون إلى الشك في هواتفهم (أ ف ب)</p>
صدمة عاشها اللبنانيون في أعقاب مجزرة الـ “بيجر” والـ “آيكوم”، وليس من قبيل المبالغة إطلاق “فوبيا الهاتف” على ردود الأفعال الانفعالية والسلوك النفسي لهؤلاء خشية تكرار ما حصل، إذ أحدثت الانفجارات ما يشبه المجزرة وأدت إلى فقدان 32 شخصاً حياتهم وإصابة 3250 آخرين من مختلف المناطق اللبنانية، بحسب وزير الصحة اللبناني فراس أبيض.
تكرر المشاهد في المدن، فهناك مواطنون يدفعهم الشك إلى رمي أجهزتهم اللاسلكية، وهناك من يسارعون لإبلاغ القوى الأمنية والعسكرية لتفجيرها، ومع بدء خيوط “الصفقة الفخ” بالانكشاف تستمر المخاوف من تكرار هذا المشهد في ظل التفوق التكنولوجي الصهيوني بحقل الذكاء الاصطناعي.
فوبيا الهاتف
مع مجزرة الـ “بيجر” اتسع فضاء الخوف في لبنان وتباينت ردود الفعل بين المواطنين، وأسهمت موجات الإشاعات في توليد أجواء سلبية حول احتمال انفجار الهواتف أو أنظمة الطاقة الشمسية التي تحوي بطاريات الليثيوم، واللافت أنها لم تقتصر على حاملي الـ “بيجر” أو الـ “آيكوم” المشهور شعبياً بجهاز “ووكي توكي”، وإنما تجاوزتها إلى حال من الريبة والشك لدى المواطنين الذين يستخدمون الهواتف الذكية كافة.
وتروي ليندا “أحدثت الانفجارات صدمة كبيرة لدينا، وفور مشاهدتي فيديوهات انفجار الأجهزة قمت مباشرة بإطفاء هاتفي ووضعه جانباً”، كما قام آخرون بتركها بعيدة من متناولهم خشية انفجارها وبعيداً من أماكن منامهم أو حتى فصل شبكات الإنترنت وأنظمة الطاقة الشمسية.
وتأتي هذه المخاوف كنتيجة طبيعية للحياة المعاصرة التي تتسم باستخدام واسع النطاق للهواتف الذكية المرتبطة بشبكة الإنترنت، وتزايد إمكانات الاختراق التي تطاول شبكات الاتصال بسبب التقنيات الحديثة، وما ينجم عنها من تساؤلات حول انتهاك الخصوصية الفردية والجماعية.
ويشير المتخصصون إلى اختراقات واسعة لشبكة الاتصال العمومية في لبنان، ولكن ما أظهرته الانفجارات الأخيرة هو وجود أشكال جديدة من الاختراق ذات بعد استخباراتي دقيق.
أخطار غير النظامي
في أعقاب الانفجارات اتضح أن الأجهزة اللاسلكية دخلت إلى البلاد خارج الأطر النظامية ولم تخضع للتفتيش الأمني النظامي أو الترخيص، وطالبت قيادة الجيش اللبناني المواطنين بالإبلاغ عن أي جسم مشبوه وعدم الاقتراب منه.
واتخذ وزير الاتصالات جوني قرم قراراً بعدم التصريح الإعلامي حول هذا الموضوع، وسبق ذلك بيان أعلن فيه أن “أجهزة (I Com V82) التي فجرت لم تشتر من طريق الوكيل ولم ترخص من قبل وزارة الاتصالات، علماً بأن الترخيص يتم بعد أخذ موافقة الأجهزة الأمنية.
من جهتها أعلنت الشركة اليابانية أنها تجري تحقيقاً حول انفجار أجهزة تحمل شعار الشركة في لبنان، مضيفة “لا يمكن تأكيد إذا ما كانت الشركة شحنت منتجاً لا سلكياً مرتبطاً بانفجارات لبنان”.
أما المديرية العامة للطيران المدني فقد طلبت في تعميم لها إلى شركات الطيران إبلاغ جميع الركاب المغادرين عبر المطار أنه وحتى إشعار آخر يمنع نقل أي جهاز “بيجر” أو “ووكي توكي” على متن الطائرة أو داخل حقيبة السفر أو حقيبة اليد، وكذلك بواسطة الشحن الجوي.
الخطر لا يزال محصوراً
ولم يفد بوقوع إصابات خارج البيئة الحاضنة لـ “حزب الله”، مما يؤكد أن الانفجارات محصورة بالصفقة التي استوردها الحزب منذ أشهر والتي تعرضت لخرق فادح من الجانب الصهيوني.
ويعتقد المتخصص العسكري ناجي ملاعب أن “استهداف أجهزة الاتصال لن يتسع ليشمل باقي البيئات اللبنانية، لأن الأجهزة المخترقة كشف صاحبها”، وبالتالي فإن المخترق “تحكم بإرسالية نوعين من الأجهزة بعد معرفته بأنها تتجه إلى الحزب، وقام بعملية تمويه للمتفجرات وهي محترفة للغاية، لأنه دخل إلى سفارة يخضع الداخل والخارج إليها لتفتيش دقيق”، ناهيك عن أن “المتضرر هو العناصر الحزبية الذين اخترقت الموجة المستخدمة والمحصورة في ما بينهم للتواصل، وباقي اللبنانيين ليسوا هدفاً”، مشدداً على مضمون وزارة الاتصالات التي أكدت دخول الأجهزة خارج رقابة الوزارة والقانون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد ملاعب أن “إسرائيل وجهت رسالة سيبرانية قوية من خلال تفجير الأجهزة، وهي لا تحتاج إلى تفخيخ الشبكات أو الهواتف التي يستخدمها باقي المواطنين، لأن هناك قدرة على تتبع وتحديد موقع أي شخص من خلال الهاتف الذكي، وإذا ما كان هدفاً لها”، متوقعاً عدم اتساع نطاق الاستهدافات لتشمل باقي اللبنانيين، لأنها ستكون في حينه عرضة للمحاسبة القانونية وإحداث ضجة إعلامية عالمية ضدها، ذلك أنها حاضراً تتذرع باستهداف فريق يقاتلها”.
اختراق واسع
ولا تقتصر الأخطار على اختراق الهواتف وإنما تتجاوزها إلى شبكة الاتصالات التي تأخذ أشكالاً عدة بين شبكة أرضية للخطوط الثابتة وأخرى خلوية تديرها شركتا “ألفا” و “أم تي سي”، إضافة إلى شبكة خاصة بالحزب لضرورات التواصل بين القيادة والهيكل التنظيمي والقتالي.
ويوضح المتخصص في الاتصالات سليمان فرح آلية الاختراق التي تتعرض لها شبكة الاتصالات، معتبراً أنه “حدث من خلال الفيروسات التي تخترق البرمجيات واعتراض موجات معينة وقراءتها، علماً أن هذه الطريقة تؤدي إلى تجسس وليس إلى تفجير، أما نظام الخرق الآخر فهو محاولة اختراق الهاكرز لثغرات أو حتى بوابة عبور داخل الجهاز نفسه تتركها الشركات المصنعة تحت ذريعة الأمن القومي للدولة المصنعة، والتحكم به لاحقاً على رغم بقائه في حوزة المستخدم بما يشبه حصان طروادة في الجهاز”، مضيفاً “هذا لا يعتبر عيباً في الجهاز وإنما مدخلاً سرياً إلى التجسس والمراقبة عند الضرورة”.
ويؤكد فرح أن “ما جرى مع الـ ‘بيجرز’ في لبنان ليس اختراقاً للشبكة بقدر ما هو عملية تفخيخ عبر سلسلة التوريد، وعمل استخباراتي موصوف، وقد لا يقتصر الأمر على هذه الأجهزة وإنما قد ينسحب إلى أجهزة أخرى على غرار حواسيب لابتوب أو كاميرات مراقبة أو أجهزة تزويد بالإنترنت وغيرها”.
الكل عرضة للاختراق
ويجزم مهندس الاتصالات بـ “سهولة خرق الهواتف الخليوية، فكل جهاز يتصل بالشبكة يفتح بوابة أشبه بالنفق الذي يربطه بالمشغل أو الجهة الراغبة بالملاحقة، ولم يعد هناك حاجة إلى إرسال فيروس وإنما بات من الممكن ملاحقة صاحب أي جهاز وتوقع حدوث أي عمل حتى قبل حصوله من خلال تجميع البيانات السابقة بأي فعل”، موضحاً أن “هذه الأنظمة باتت منتشرة وفي متناول الدول التي تعتمد عليها في إحباط الجرائم، كما في الأعمال الحربية”.
ويشير فرح إلى أن الاختراق لا يقتصر على الهواتف وإنما يتجاوزه إلى كاميرات المراقبة وأجهزة استقبال الإنترنت والـ “واي فاي” والـ “راوتر”، في ظل انتشار منظومات الاختراق المعتمدة من الأجهزة الأمنية، وهي باتت أداة في الحرب الحديثة.
الأجهزة الآمنة
أمام هذه الاختراقات الواسعة لأجهزة البث الهوائي يبقى السؤال حاضراً حول كيفية الحفاظ على خصوصية المستخدم والتواصل الآمن، ويعتبر فرح أن “الأجهزة الأكثر أماناً هي غير الموصولة بالهوائي، وتعمل وفق شبكة مغلقة من الألياف البصرية، ولكنها ليست آمنة بالمطلق، فعند بلوغ أي جزء من أجزائها يصبح هناك إمكان لاعتراض الإشارة والدخول إليها وفق آليات معقدة، وبمساعدة أشخاص من الداخل لاختراقها”.
ويجيب متخصص الاتصالات عن تساؤل حول فرضية العيش بأمان والهرب من الملاحقة من خلال فصل الجهاز عن الإنترنت قائلاً “إن فصل الجهاز عن الإنترنت يجعله معزولاً عن العالم الخارجي وغير قادر على إرسال أية معلومة، ولكن ذلك ليس آمناً لأنه بمجرد مرور جهاز آخر مخترق يمكنه تصويرك وسماع صوتك وصورتك من دون معرفتك، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد لأنه في حال كنت تتابع تلفزيوناً مرتبطاً بالإنترنت فهذا الأمر قادر على اختراقك وتصويرك من دون معرفتك”.
المستقبل المخيف
ويتطرق فرح إلى تطور رهيب تشهده منظومات التجسس التي باتت قادرة على تصوير الأشخاص من خلال الـ “واي فاي” وظهرت منذ قرابة السبعة أعوام، إذ تقوم بنقل وجود الشخص من خلال رصد إشارته وحرارته ومن ثم إعادة تركيب صورته لدى الأجهزة التي تتبعه”، ولذلك يتوقع انتقالاً كبيراً في حروب المستقبل وأن نكون أمام حرب الـ “مايكرو” (الجزئيات) وليس الـ “ماكرو” (الكليات)، أي لن نعود بحاجة إلى صواريخ بالأطنان لتدمير المنشآت وإنما سيكون اللجوء إلى صناعة ذباب إلكتروني أو طيور تحمل مواد فائقة التفجير، وتتسابق الدول لصناعة البطارية المتناهية في الصغر وقدرة الشحن الفائقة التي قد تقود مستقبلاً إلى طيران أجزاء صغيرة لمسافات طويلة للغاية قبل تفجير نفسها بالهدف، ويمهد لهذا الانقلاب الثوري تطور طائرات الـ “درون” وظهور البطاريات الحديثة، والتي تترافق مع اتساع علوم التجسس والتسابق داخل مختبرات التسلح.
اختراق الخصوصية
تثير جرائم اختراق الاتصالات وتفجيرها إشكالات كبيرة على المستوى القانوني والحقوقي، وبحسب رئيس مؤسسة “جوستيسيا” الحقوقية المحامي بول مرقص فإن “تفجير أجهزة الاتصال انتهاك للقانون الدولي الإنساني كونه لا يميز بين المقاتلين والمدنيين، فتقع إصابات عشوائية بين المدنيين”، مضيفاً “هذه قاعدة عرفية من قواعد الحرب لا يمكن لإسرائيل التنصل منها لمجرد أنها لم تبرم البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقات جنيف لعام 1949، والذي يحمي المدنيين أثناء النزاعات المسلحة، كما أن تفخيخ وتفجير أجهزة الاتصال قد يتحول إلى تحد عالمي كبير يزعزع قواعد استعمال التكنولوجيا ويرفع أخطارها”.
ويستهجن المحامي مرقص تحويل الأحياء السكنية إلى أهداف عسكرية وتعريض المدنيين للخطر، مطالباً بتحقيق في الانتهاكات واستخدام القوة بصورة مفرطة وعشوائية، وفقاً لأحكام “اتفاق جنيف الرابع” الذي يرعى وجوب حماية المدنيين، كما يشدد على ضرورة “تحرك القضاء اللبناني بسرعة وحزم وقوة على نحو متناسق ومراسلة السلطات الأجنبية حيث مراكز الشركة المصنعة والبائعة، والتنسيق الوثيق مع وزارة الخارجية اللبنانية”، مستغرباً عدم حصول ذلك حتى اللحظة.
إضافة تعليق