نابغة سينمائية أم شريرة نازية؟ التاريخ لم يحسم رأيه تجاه ليني ريفنستال
<p>المرأة الممثلة للرايخ: صورة تجمع أدولف هتلر مع ليني ريفنستال (شترستوك)</p>
في الفيلم الوثائقي الطويل “ريفنستال” من إخراج أندريس فايل الذي يستعرض حياة ليني ريفنستال المخرجة المفضلة لدى أدولف هتلر، يُظهر تفصيلاً يحمل دلالة عميقة على رغم صغره. فعندما كانت ريفنستال في مرحلة المراهقة وعلى أعتاب النضوج، كانت تعمد إلى طلاء سراويلها الداخلية باللون الأحمر وحشو حمالتها بجوارب محاولة بذلك إقناع زميلاتها في المدرسة بأن دورتها الشهرية بدأت، وأنها أكثر نضوجاً منهن. وقد ظل حب التألق والبقاء دوماً في الطليعة يرافقها مدى الحياة، وكذلك ميلها إلى الكذب والنفاق لتحقيق أهدافها.
وخلال لقاء مع أصدقائها المدرسيين القدامى في منتصف سبعينيات القرن الـ20، قالوا لها “إن طموحك بلا حدود!” (وقد عاشت ريفسنتال إلى سن الـ101). وأضافوا “كنت تغضبين بشدة إذا لم تسر الأمور كما أردت، أو لم تحصلي على الإشادة التي كنت تتوقعينها من عملك”.
وعلى مدار الأعوام الـ90 الماضية، شكلت حياة ريفنستال ومسيرتها المهنية محور نقاشات واسعة وعميقة. فمنذ أن أخرجت فيلمها المذهل “انتصار الإرادة” Triumph of the Will (1935)، الذي وثق “تجمع نورنبيرغ” Nuremberg Rally [الحدث الذي أقامه الحزب النازي الألماني] عام 1934، صارت في مرمى الانتقادات وواجهت اتهامات بنشر البروباغندا النازية، وهو ما قامت به بالفعل. إذ إن ريفنستال صورت هتلر وأتباعه بالطريقة التي أرادوها تماماً كحركة جماهيرية متعصبة ومليئة بالحماسة، تنضح بالقوة والانضباط وتشكل تهديداً واضحاً للآخرين. وصحيح أن هذا الفيلم مثل نقطة تحول كبيرة، إذ تعرف العالم من خلاله وللمرة الأولى إلى هيبة “الرايخ الثالث” وعظمته (بمشاهد الصراخ، والجنود الذين يسيرون بخطوات متناسقة عملاقة وإلقاء التحيات العسكرية). وبعد الحرب كتبت صانعة الأفلام سيرتها الذاتية لخدمة مصلحتها الشخصية، وأمضت أكثر من 10 أعوام وهي “تتخبط مع مهمة تحديد الطريقة التي سيتذكرها فيها الآخرون”، وفق ما كشفه فايل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بالنسبة إلى المخرج فايل فإن مدى قرب ريفنستال من هتلر هو سؤال يحمل طابعاً ملحاً إلى أقصى الحدود. ويعلل ذلك بأن الصور التي رسمتها ريفنستال [عن تلك المرحلة] أصبحت حاضرة بقوة في رمزية اليمين الجديد، وبأن الأنظمة المستبدة في كل من موسكو والصين تبدو مهووسة بعروض “العظمة الإمبريالية” كالتي اعتادت على تنسيقها ببراعة على الكاميرا لمصلحة عقيدة هتلر. وحتى اليوم لا تزال قضية ريفنستال تثير تساؤلات محورية ومحرجة حول إمكانية النظر إلى الفن بمعزل عن السياق السياسي الذي انطلق منه.
ومن ثم، لا يمكن إغفال أهمية توقيت صدور هذا الفيلم الوثائقي الذي يتزامن مع صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” القومي اليميني المتطرف الذي يواصل ترسيخ وجوده في الساحة السياسية الألمانية. وعرض الفيلم للمرة الأولى في “مهرجان البندقية السينمائي”، إذ عاشت المخرجة الألمانية لحظة مجدها السينمائي عند فوزها عام 1938 بكأس موسوليني (التي يحمل اسمها دلالة مشؤومة)، على فيلمها الوثائقي “أولمبيا” Olympia الذي تناول دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في برلين عام 1936.
وقد بدأت ريفنستال حياتها المهنية كراقصة وسرعان ما سطع نجمها في السينما ضمن إطار أفلام “الجبال” الرائجة آنذاك، التي عكست العلاقة الفريدة بين الإنسان والطبيعة من خلال مغامرات في الجبال. وتوجهت نحو عالم الإخراج وهي لا تزال في أوائل الثلاثينيات من عمرها. وجذبت انتباه هتلر بأول إخراج لها لفيلم بعنوان “الضوء الأزرق” The Blue Light (1932)، وهو فيلم ذو طابع غامض لعبت فيه أيضاً دور البطولة بشخصية “يونتا”، وهي فتاة جبلية عفوية وجميلة اعتبرها القرويون ساحرة. وفي أحد المشاهد الأكثر تأثيراً تظهر وهي تتسلق جرفاً صخرياً خطراً وسط الضباب، من غير حبال الآمان.
وفي سياق متصل، حذر كاتب سيناريو الفيلم اليهودي كارل ماير الذي كتب أيضاً سيناريو فيلم الرعب التعبيري الألماني الكلاسيكي “عيادة الدكتور كاليغاري” The Cabinet of Dr Caligari (1920) ليني قائلاً إنه في حال واصلت تجسيد شخصيات مثل “يونتا”، فستتحول إلى “أيقونة” بنظر أنصار الحزب النازي. وهذا ما حدث فعلياً لأنه مع وصول هتلر إلى السلطة أصبحت ريفنستال الوجه الدعائي للنظام الفاشي الجديد.
واللافت أن الفوهرر شعر بانجذاب كامل إلى صانعة الأفلام، وهو شعور بادلته إياه بلا تردد. ففي أول مرة استمعت فيها إلى خطابه غمرها شعور غريب جعلها تتصبب عرقاً وقالت لاحقاً مستذكرة “شعرت وكأن قوة مغناطيسية أسرتني”. كما أنها كانت متأثرة بسيرة هتلر الذاتية السياسية “كفاحي” Mein Kampf، حتى إنها كشفت لصحيفة “ديلي إكسبرس” Daily Express عام 1934 أن “قراءة الصفحات الأولى كانت كفيلة بأن تجعلني من أنصار الحزب القومي الاشتراكي”.
ولو أردنا وضع النقاط على الحروف وتوضيح الأمور لقلنا إن نظرية فايل تشير إلى أن بطلة فيلمه الوثائقي أمضت النصف الثاني من حياتها على إخفاء الحقيقة حول ما قامت به في النصف الأول منها. فبعد الحرب العالمية الثانية، تمكنت من إقناع العالم بأن تجسيدها لدور كبيرة مؤيدي الرايخ الثالث على الشاشة لا يعني أنها كانت على علم بالهولوكوست (محرقة اليهود) أو أنها كانت تؤيد الفكر النازي.
وخلال الأعوام الأخيرة تبنى عدد من صانعي الأفلام المؤثرين وناقدين سرديتها، واعتبر الناقد ريتشارد كورليس من مجلة “تايم” Time أن هتلر لم يكن سوى “مستفيد بالصدفة” من “رؤية” ريفنستال، مؤكداً أن همها الأول طوال مسيرتها المهنية كان “خلق أسطورة” عن أبطالها، سواء كانوا نازيين في نورنبرغ أو رياضيين أميركيين من أصحاب البشرة السوداء مثل جيسي أوينز، أو رجالاً من قبائل نوبية قامت بتصويرهم خلال ستينيات القرن الماضي.
وعندما كان كوينتن تارانتينو يعمل على إنتاج فيلمه “أوغاد مجهولون” Inglorious Basterds في ألمانيا، صرح في مقابلة مع صحيفة “دير شبيغل” Der Spiegel الألمانية عام 2009 بأن ريفنستال تعد “أفضل مخرجة عاشت على مر العصور”.
وأثني على إنجازاتها في مجال تغطية الفعاليات الرياضية، إذ أحدثت ثورة حقيقية في هذا المجال. وخلال عملها على إنتاج فيلم “أولمبيا” استعانت بتقنيات الحركة البطيئة ولقطات الزوايا العالية والمنخفضة التي أذهلت المشاهدين، وقامت بتثبيت كاميرات تصوير على متن قوارب التجذيف. وقد أشاد بها باد غرينسبان منتج الأفلام الأميركي المعروف بأعماله الوثائقية عن الألعاب الأولمبية، معتبراً أنها “إنها كانت [ريفنستال] أول من سرد القصص باستخدام تقنيات مبتكرة نحاول جميعاً تقليدها اليوم”.
بعد أكثر من 120 عاماً من ولادتها، لا تزال ريفنستال قادرة على استقطاب الرأي العام وإثارة الذكريات المؤلمة
وبلا أدنى شك يبرز الفيلم الوثائقي الجديد بوضوح تألق البطلة وروحها الابتكارية، لكنه يجادل أيضاً بقوة أنه لا يمكنك التقرب من النازيين كما فعلت دون أن تتأثر بهم.
أما أكثر المزاعم أذية فمفادها أنه خلال سبتمبر (أيلول) 1939 لم تكتف ريفنستال بأن تكون شاهدة على مقتل 22 سجيناً يهودياً بولونياً، بل كانت أيضاً مسؤولة عن موتهم. فهي كانت في زيارة بلدة كونسي في بولندا لتوثيق تقدم القوات الألمانية. وكانت تريد تثبيت الكاميرا في السوق، وقت انشغال السجناء بأعمال حفر.
وفي رسالة وجهها الضابط النازي بيتر جاكوب أحد الشهود إلى زوجها السابق عام 1952 نقل عن ريفنستال قولها إنه “من الضروري إخلاء المكان من اليهود”. وعلى ما يبدو كانت نيتها طلب إبعاد اليهود من أمام عدسة الكاميرا، لكن مع مرور الوقت وتداول الرسالة بين كبار الضباط، تحولت التعليمات إلى “تخلصوا من اليهود”. وحاول بعض السجناء الفرار بيد أن الأسلحة الألمانية كانت لهم بالمرصاد.وفي حال كان مضمون الرسالة منسوباً فعلاً إليها فمعناه أن خياراتها الإخراجية كانت مسؤولة مباشرة عن مقتل بولنديين. ومع ذلك نفت ريفنستال بشدة هذه الاتهامات، وأصرت على أنها لم تكن شاهدة على أية فظائع من هذا النوع، مع أن الفيلم الوثائقي يعرض صوراً للمخرجة في موقع الحدث، وبدت فيها في حال صدمة كبيرة إزاء ما حصل للتو.
وفي سياق متصل، يكشف الفيلم عن وقائع أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها. وبالفعل من المحبط أن نعرف أن المصور السينمائي البارز ويلي زيلكي (تعاون معها على فيلم “أولمبيا”) تعرض لانهيار عصبي، وهي لم تحرك ساكناً لمساعدته، بالتالي فقد وضع هذا الأخير في مصحة وخضع لعملية خصي قسرية وفق القوانين النازية السائدة في تلك المرحلة.
واللافت أن ريفنستال أنكرت أيضاً ما حل بأطفال سينتي وروما [قوميات غجرية]، الذين استقدمتهم إلى مخيم داخلي كإضافات لفيلمها “لولاندز” Lowlands خلال عام 1940 علماً أن هؤلاء الأطفال بالقسم الأكبر منهم لقوا حتفهم لاحقاً في معتقل “أوشفيتز”.
وبعكس المهندس المعماري المقرب من هتلر وصديقها ألبرت سبير لم تقض ريفنستال عقوبة مطولة في السجن بعد محاكمات نورنبيرغ. ومع ذلك أكد لي فايل أن سبير كان أنجح منها في تحسين سمعته، قبل أن يضيف “لقد كان أكثر ظرافة منها. وقال لي ’ربما كنت على علم بكثير من التفاصيل لكنني لم أطرح الأسئلة أبداً‘”.
وأضاف فايل “وفي وقت لاحق، تأكد طبعاً أنه [أي المهندس المعماري] لم يكن فقط شاهداً على مجازر الهولوكوست، بل كان من منظميها. فقام بتوسيع نطاق معتقل أوشفيتز وشارك في مؤتمر نوقش فيه الهولوكوست علناً. وفي العام الذي سبق وفاته، بات واضحاً أنه كان يكذب، لكنه كان بحماية عدد كبير من الناشرين الألمان النافذين”.
وبعد أكثر من 120 عاماً على ولادتها لا تزال ريفنستال قادرة على استقطاب الرأي العام وإثارة الذكريات المؤلمة. وفي هذا السياق، كشف لي فايل عن توقعه لردود فعل قاسية قد تواجهه من بعض الجهات على صنعه الوثائقي الجديد. وفي أقل تقدير، سيذكِّر فيلمه الجماهير بضرورة النظر إلى حياة ريفنستال وأعمالها بعين ناقدة. ومن ثَم لا بد أن يدركوا أن ريفنستال أكانت مراهقة تضع حشوات في ملابسها الداخلية أو مخرجة شابة لامعة التي تدير الأمور في تجمع نورنبيرغ، أو مؤلفة في مرحلة ما بعد الحرب وضيفة برامج حوارية تنقح قدر الإمكان سيرة حياتها، لم تكن يوماً كما بدت عليه أمام الآخرين. فلو أن ريفنستال كانت نابغة، لا شك في أنها لم تتوخ الصدق على الإطلاق، وقد خلفت أكاذيبها الحلوة تداعيات وخيمة وتركت فوضى ودماراً.
عرض الفيلم الوثائقي “ريفنستال” في “مهرجان البندقية السينمائي”.
إضافة تعليق