“ثقافة الإلغاء العقابية”… اغتيالات بلا دماء
<p class=”rteright”>هذا النوع من العقاب المجتمعي يستند بصورة رئيسة أولاً إلى الـ “سوشيال ميديا” (مواقع التواصل)</p>
قبل أسابيع قليلة مرت الذكرى الرابعة لوفاة الكاتب السياسي وأستاذ علم الإجرام بجامعة كارولينا الشمالية في الولايات المتحدة مايك آدامز، وهو الأستاذ الجامعي الذي انتحر بعد فترة قصيرة من فصله من السلك الأكاديمي، إذ كان هذا القرار مجرد حلقة في سلسلة من المواقف التي اتخذت ضده عقاباً على تصريحاته العلنية المناهضة للحركة النسوية والمتحولين، والتي تضمنت كذلك استهزاء بطلابه وزملائه حين اتهمته الجامعة بتبني خطاب كراهية مقيت، وبعد وقت قصير من تلك الحملة وجد ميتاً عن عمر 55 سنة، وصنفت الشرطة الحادثة على أنها انتحار، فيما انبرت آراء تشير إلى أن الأكاديمي المنتمي إلى الحزب الجمهوري والذي عرف بآرائه العنصرية وتوجهه المحافظ، قد يعتبر ضحية لما يسمى بـ “ثقافة الإلغاء”.
مسرح التشويه
هذه الواقعة تنفي تماماً الآراء التي كانت تقلل من تأثير ثقافة الإلغاء في حياة الآخرين، معتبرين أن الأمر عادة يكون عابراً وغير ملموس، و”Cancel culture” مفهوم انتشر عالمياً قبل نحو خمسة أعوام، ويعتبر واحداً من تجليات حركات تصحيح كثيرة من بينها “مي تو” و”حياة السود مهمة”، المنبثقة بدورها من تنامي مصطلح الصوابية السياسي في الأساس، إذ يهدف الإلغاء هنا إلى الإدانة العلنية، وبه توجه جميع الأسلحة ضد من يقولون بآراء تعتبرها المجموعة الأكبر مسيئة، فيعملون على إخراجهم من الدوائر تدريجاً ويسحبون منهم وسائل الدعم بالتجاهل ووضعهم على “المسرح”، وهو تعبير مجازي يشير إلى استباحة الهجوم على شخص ما أو جهة ما والمنتمين إليها، وتفنيد توجهاتهم بشراسة وإشعارهم بالخزي مما يجعلهم يفقدون السمعة والمهنة لتتحول منجزاتهم إلى سراب، وهو ما حدث حرفياً مع الأستاذ الجامعي الذي تخلص من حياته على رغم سجله العلمي الحافل.
لكن إذا كان هذا النوع من العقاب المجتمعي الذي يستند بصورة رئيسة أولاً إلى الـ “سوشيال ميديا” فعالاً ويبدو عادلاً في نظر بعضهم، فإنه في المقابل ووفقاً لكثير من المتخصصين يصنف على أنه مصادرة لحرية الرأي، وهي أفكار تعاكس تماماً السبب الذي انتشرت لأجله الصوابية ومشتقاتها التي تهدف إلى منح الجميع فرصاً متساوية مع تصحيح المسار.
ديكتاتورية كامنة
وتتفق أستاذة العلوم السياسية ورئيسة قسم الدراسات المستقبلية بمعهد التخطيط القومي هبة جمال الدين مع هذا الرأي، معتبرة أن فكرة الإقصاء تخضع هي الأخرى لمبدأ القوة، فمن يمتلك وسائل التواصل الاجتماعي وكذلك وسائل الإعلام التقليدية يمكنه أن يقصي من يشاء من الشخصيات العامة، وأيضاً أن يمنع أفكاراً معينة من الانتشار، وفي هذا الإطار يُضيق على كثير من الآراء بحجة معاداة السامية على سبيل المثال، وذلك بهدف إفساح المجال لسردية معينة والتعتيم على حقائق تاريخية، وهو ما يسمى التضليل.
وتابعت أستاذ العلوم السياسية “تستخدم طريقة الإقصاء والإبعاد بطريقة تحمل كثيراً من التلاعب، وهو أمر يظهر بوضوح في الخطط التي تتبعها إسرائيل لطمس الحقائق، وأيضاً حركة الـ ‘أفروسنتريك’ التي تمتلك كثيراً من الأدوات والوسائل لنشر ادعاءاتهم الخاصة حول انتمائهم للحضارة المصرية القديمة، على رغم وجود أدلة لا تقبل الشك حول عدم صحة ما ينشرونه، وعدم امتلاكهم أية أدلة علمية يمكن الاستناد إليها، ومع ذلك يُعتم على من يفند حججهم بل ومقاطعته”.
ووصفت جمال الدين ما يحدث بأنه “تفريغ للديمقراطية من جوهرها، وأمر يصب في غير مصلحة حرية التعبير بالمرة، فالحظر والإقصاء تكميم للأفواه وديكتاتورية كامنة تصدر في وجه الإنسانية والعدالة”.
بمباركة المجتمع
ازداد مصطلح ثقافة الإلغاء انتشاراً بالتزامن مع تظاهرات “حياة السود مهمة” عقب مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد شرطي أبيض في مارس (آذار) 2020، وعلى رغم أن التعبير نفسه قد لا يستعمل بصورة مباشرة كثيراً حتى من قبل أكثر المتشبثين به كمنهج حياة، فإنه ينفذ بحذافيره ولاسيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت أداة فعالة وأساساً في نظر بعضهم لتحقيق العدالة من وجهة نظرهم، باعتبارها مشاركة فاعلة في إعادة النظر بالقرارات المؤثرة في صلب الحياة اليومية، وإذا ما وقع أحدهم تحت مقصلة حملات الإلغاء هذه فهو مهدد بفقد وظيفته ومكانته الاجتماعية، وتذوّق الانعزالية الإجبارية سواء في العالم الافتراضي أو الواقعي، مما جعل كثيراً من الأكاديميين يعبرون عن قلقهم من انتشار هذه الأفكار، ووصفها بأنها نوع من القمع الثقافي، بخاصة حينما تمارس بتشدد من قبل مجموعة تعتقد أنها تمتلك الحق المطلق في التعبير والحكم، مما يجعل بعضهم يترددون قبل الإعلان عن آرائهم في قضية أو حدث ما خوفاً من الاختلاف الذي قد يصل بهم إلى النبذ، وهو أمر حذر منه أيضاً الباحث أستاذ الفلسفة بجامعة “ييل” الأميركية، جوشوا نوب، بخاصة في مجتمع سريع الأحكام مما يؤثر سلباً في حياة الأفراد، داعياً إلى مشاركة الجوانب الإيجابية لأنها تكون أكثر فائدة.
فكرة الاستقطاب أيضاً أثارت حفيظة قطاع من السياسيين ولعل أبرزهم دونالد ترمب، باعتبار أنه يقع دوماً ضحية حملات تدعو إلى تهميش آرائه، إذ اعتبر أن “الإلغاء سلاح يهدف فقط إلى الابتزاز وإسكات المعارضين ومساومتهم على الخضوع”، كما نبه باراك أوباما إلى أن “الجميع لديهم عيوب حتى الداعين إلى معاقبة شخص معين”، مذكراً بأن ضحايا تلك الثقافة لديهم عائلات وأطفال ينبغي وضعهم في الاعتبار.
تلك المقاطعة
ومثلما أخذت مجموعات في المجتمع الأميركي نشر هذه المقاطعة الثقافية عالمياً فهناك من تأذوا منها لدرجة أن التنبيه بأخطارها لا يتوقف من قبل سياسيين وأكاديميين وكذلك بعض المشاهير، إذ قد تستعمل لتصفية حسابات شخصية، وربما تأتي قضية الطالبة ميمي غروفرز كواحدة من أكثر الأمثلة قسوة في ما يتعلق بثقافة الإلغاء العقابية، فقد خسرت الفتاة قبل ثلاثة أعوام واحداً من أحلام حياتها وهو الالتحاق بجامعة تينيسي، بعدما قام زملاء لها في مدرستها بولاية فيرجينيا بإعادة نشر فيديو قديم لها كانت قد سجلته حينما كانت في الـ 16 من عمرها، وتلفظت فيه بلفظ عنصري عن أصحاب البشرة السوداء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن في عام 2021 وحينما تيقن بعض زملائها الذين بيتوا النية للانتقام وتلقينها درساً وفق طريقتهم، من قبولها في الجامعة، نشروا المقطع القصير على نطاق واسع داعيين الجامعة إلى طردها، وعلى إثر ذلك وصلت إلى إدارة القبول آلاف الرسائل الغاضبة والاتصالات التي تطلب الشيء ذاته، فما كان منهم إلا أن ضغطوا على الفتاة لتسحب أوراقها خشية ألا تشعر بعدم الارتياح جراء تلك الحملة، وبالفعل استجابت الفتاة التي لم يسمع أحد صوتها في محاولة للدفاع عن نفسها، وانتهت بها الحال إلى الالتحاق بفصول الدراسة عن بعد في إحدى الكليات المحلية.
تأثير الوصمة
يرى أستاذ الصحة النفسية حمدي أبو سنة أن تأثيرات ثقافة الإلغاء النفسية شديدة السوء وقد تأتي بعواقب شديدة الوطأة، معتبراً أنها صورة من صور الرفض والنبذ الواضح، ومضيفاً أنها تأتي بناء على قرار من مجموعة معينة بإخراج بعض الأشخاص من الدوائر الاجتماعية، سواء واقعياً أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعل الأمر بالنسبة إليهم مثل الوصمة.
وتابع أبو سنة أن “ثقافة الإلغاء لها توجهات سلبية مقيتة وتستخدم بصورة فعالة وواسعة في الحروب النفسية، إذ تدبر هجمات منظمة ومتشعبة عبر الـ ‘سوشيال ميديا’ أولاً ثم تمتد تأثيراتها للحياة العملية، وعادة تلجأ إليها منظمات ذات توجه سياسي أو ثقافي معين لإسكات بعض الألسنة التي تسرد حقائق تريد طمسها”.
وبالعودة لما حدث مع الفتاة ميمي التي دفعت ثمن فيديو مدته ثوان من مستقبلها، فالرفض الذي تعرضت له يتخطى فكرة التنمر التي من المفترض أن يحاربها الصوابيون، بل إنه تنمر تحدث مباركته وتشجيعه لا استهجانه وكأنه قصاص عادل، وبالتالي يحظى بالدعم والإشادة والتصفيق، وقد حاولت الشابة تبرئة نفسها بالقول إنها كانت صغيرة ذلك الوقت بل وطفلة، ولم تكن تقصد أحداً بعينه وإنما كان الأمر كله في إطار محادثة متسرعة في جو من المزاح، ولكن لم يسمعها أحد.
وهنا تكمن إحدى أكثر عناصر ثقافة الإلغاء خطراً، وهي عدم الاعتراف بأي سياق للرأي الذي ينبذ وصاحبه، بخاصة أن أفكار البشر تتغير وأحكامهم تتبدل وفقاً لتطور مستواهم التعليمي وخبراتهم وقراءاتهم، لكن الحكم يأتي سريعاً وبلا رحمة، بل وقد يكون سلاحاً فتاكاً بصورة غير متوقعة لأنه نوع من أنواع التشهير الذي يصيب هدفه بسرعة كبيرة، إذ يجده المروجون بديلاً شافياً عن الأحكام القضائية، بخاصة أن بعض المواقف المستهدفة لا تصنف كجريمة بالمعنى القانوني الاعتيادي.
عقوبات نهائية
هنا يكون الحل هو العقاب المجتمعي من دون مراعاة لعوامل كثيرة، بل يلغى باب المراجعة والمناقشة تماماً ويصبح الضحية هدفاً لما يسمى بالتعبير المصري الدارج “التحفيل”، أي الرمي بسهام السخرية والنبذ والتوبيخ والسب لأنه قال رأياً لم يعجب قطاعاً ما، وهو ما حدث أخيراً مع الفنانة إلهام شاهين حينما تحدثت عن رفضها قيام مخرجي الأعمال الفنية بتعطيل التصوير من أجل الصلاة، كما أنها خضعت لسلوكيات افتراضية مشابهة في وقت سابق مع آراء في السياق نفسه بين حين وآخر، لكنها في كل مرة تخرج من الأزمة معتدة بما قالت، كما أنها تدعو من حولها إلى مناقشتها وليس إبعادها وتكفيرها.
ثقافة الإلغاء أيضاً طاولت عدداً من فتيات الـ “تيك توك” على رغم أن كثيرات منهن عوقبن بالقانون، ولكنهن ظهرن في فيديوهات يبكين بسبب كونهن منبوذات بعد تغذية الشعور بالخزي لديهن، بل إن أية شخصية تدلي برأيها، ولا سيما ممن يصنفن على أنهن نسويات يدافعن عن حقوق المرأة، تواجه مصيراً مشابهاً باعتبارها تنشر أفكاراً هدامة للأسرة في نظر بعضهم.
وقد تكون المقاطعة الاقتصادية من ضمن أشكال الإلغاء العقابية في بعض المجتمعات، ولا سيما أنها انتشرت أخيراً في البلدان العربية وشملت علامات تجارية كثيرة، إذ يرى الملتزمون بها أنها مجرد رأي يقال بصوت عال رفضاً لإعلان هذه المنتجات دعمها لما يجري في غزة ضد الفلسطينيين، والأمر نفسه انطبق في وقت سابق بصورة متقطعة على كثير من العلامات التجارية العاملة في مجال الموضة، إذ كانت الحملة التي دشنتها مؤثرات ضد الدار الفرنسية “بالنسياغا” قبل عامين الأكثر تأثيراً في هذا المجال، وذلك عقب طرح العلامة تصاميمها الجديدة مستخدمة أسلوباً للترويج وصف بأنه يدعو إلى استغلال الأطفال جنسياً، ودخلت النجمات في نشر رسائل استهجان للعلامة ومن بينهن كيم كارداشيان وبيلا حديد، مما اعتبر أحد الأوجه الإيجابية لهذه الظاهرة، إذ نشرت الدار اعتذاراً وسحبت الحملة، ومن قبلها كانت مؤسسات موضة مثل “أديداس” و”غوتشي” و”برادا” أيضاً ضحايا لحملات مماثلة عى مراحل متقطعة بعد اتهامات بالعنصرية وإهانة ثقافات شعوب بعينها.
ماذا يفعل المشاهير؟
في حين تبدو كوريا الشمالية نموذجاً عملياً وصارخاً على الإلغاء والتهميش، فهي دولة شبه معزولة نظراً إلى سياستها العكسرية وأفكار زعيمها، لكن يظل مشاهير هوليوود هم النماذج الأكثر وضوحاً في عالم تحكمه ثقافة الإلغاء والأحكام السريعة التي تنسحب على جوانب حياة الإنسان كافة، فبعد ظهور قضايا اتهم فيها كيفن سبيسي بالتحرش الجنسي بالرجال والاعتداء عليهم، وبعضها يعود لحوادث جرت منذ عقود، طالب كثيرون بمقاطعة أعماله على رغم موهبته الكبيرة كممثل حاز تمثالي “أوسكار”، لكن ثقافة الإلغاء تتميز تداعياتها بالتداخل الشديد، وبالتالي جرى إلغاء جميع تعاقداته المهمة وخسر دوره في الموسم الأخير من “هاوس أوف كاردز”، إضافة إلى استبداله بممثلين آخرين في أعمال كان قد صورها بالفعل، وبات مهمشاً تماماً في هوليوود ويتفرغ للدفع للمحامين الذين يدافعون عنه في قضايا عدة بين لندن والولايات المتحدة، والنتيجة أنه ظهر أخيراً في لقاء تلفزيوني باكياً بسبب نفاد أمواله بعد طرده معنوياً من هوليوود، حتى إنه لا يجد موارد لإعالة نفسه.
ومن قبله نبذ ميل غيبسون لأعوام عدة أيضاً لاتهامه بمعادة السامية بسبب تصريحاته المعادية لإسرائيل، فيما يحاول ويل سميث بصعوبة لملمة شتات مسيرته بعد أن تعرض لحملات تهميش بسبب صفعته الشهيرة على وجه زميله كريس روك قبل عامين، حينما سخر الأخير من صلعة جادا زوجة سميث، ويظهر الممثل بين وقت وآخر في عمل سينمائي لافت يحاول من خلاله إنهاء فترة التعثر والنبذ، بعد أن خسر بالفعل تعقادات مع كبرى الشركات وبينها “نتفليكس”، كما بات ممنوعاً من حضور حفلات الـ “أوسكار” بالفعل.
درس جوني ديب
كذلك واجهت مؤلفة “هاري بوتر” كي جي رولينغ دعوات المقاطعة والتشهير بعد آرائها المتوالية الساخرة من الرجال المتحولين جنسياً، كما واجه النجم جوني ديب حملات إقصاء عقب أزمته الشهيرة مع زوجته السابقة آمبر هيرد التي اتهمته بضربها وتعنيفها بكثير من الحنكة، فعلى رغم استبداله بممثلين آخرين في أكثر من عمل سينمائي كبير لكنه نجح في العودة من جديد من خلال أفلام مهمة ومميزة عرضت في مهرجانات، واستقبل حينها بحفاوة ولا سيما بعد أن برأته المحكمة من تلك الاتهامات، لكنه قضى أعواماً متخبطاً قبل أن يتجاوز تلك المحنة بسلام.
تبدو ثقافة الإلغاء فعالة إلى حد كبير ولكن تأثيرها يبقى موقتاً في أحايين كثيرة، ومرهوناً بمدى قدرة المستهدف على تخطى هذه الكبوة، وكذلك مدى اقتناع المجتمع ببراءته من الأفعال البغيضة العنصرية، وقد كانت هناك نماذج شديدة الوضوح على نجاح هذه الطريقة العقابية وأيضاً على طرق مقاومتها، مثلما حدث مع المصري محمد صلاح لاعب كرة القدم في نادي ليفربول، حينما دُشنت حملات لتجاهله والانسحاب من حساباته على الـ “سوشيال ميديا” بعد رفض النشطاء موقفه الصامت من الحرب الصهيونية على غزة.
إضافة تعليق