ريغان لم يفز بالحرب الباردة
<p class=”rteright”>الرئيس الأميركي رونالد ريغان يتحدث خلال مؤتمر صحافي في واشنطن العاصمة، أكتوبر (تشرين الأول) 1983 (رويترز)</p>
عندما يحاول الجمهوريون وضع خطط واستراتيجيات للتعامل مع الصين اليوم، يشير عدد كبير منهم إلى نهج الرئيس رونالد ريغان التصادمي تجاه الاتحاد السوفياتي باعتباره نموذجاً يحتذى به. قال هربرت مكماستر الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس دونالد ترمب: “كانت لدى ريغان استراتيجية واضحة لتحقيق النصر في المنافسة العالمية مع الاتحاد السوفياتي. نهج ريغان الذي يتضمن ممارسة ضغوط اقتصادية وعسكرية مكثفة على قوة عظمى منافسة، أصبح أساسياً في التفكير الاستراتيجي الأميركي. لقد عجل بنهاية قوة الاتحاد السوفياتي وأسهم في إنهاء عقود عدة من الحرب الباردة بصورة سلمية”. ثلاثة من خبراء السياسة الخارجية المحافظين، راندال شريفر ودان بلومنتال وجوش يونغ، كانوا أشاروا إلى أن الرئيس الأميركي المقبل “يجب أن يتبع نهج الرئيس السابق رونالد ريغان في إدارة السياسة تجاه الصين”، وذكروا أن “النية في الفوز بالحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي” كانت “منتشرة” في جميع وثائق الأمن القومي في عهد ريغان. وفي مجلة “فورين أفيرز”، استشهد كل من مات بوتينغر، نائب مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترمب، ومايك غالاغر، النائب الجمهوري السابق، باستراتيجية ريغان فذكرا أن “الولايات المتحدة ليس من المفترض أن تدير المنافسة مع الصين، بل أن تنتصر فيها.”
كان من الممكن أن أميل إلى تأييد هذه الطروحات لولا أنني قضيت عقداً من الزمن في دراسة حياة ريغان وإرثه، وكشفت عن سجل تاريخي يتناقض بصورة حادة مع الأساطير التي أصبحت تحيط بالرئيس الـ40 للولايات المتحدة. ومن أكبر هذه الأساطير أن ريغان كان وضع خطة لإسقاط “الإمبراطورية الشريرة” وأن ضغوطه هي التي قادت إلى انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة. لكن في الحقيقة، كانت نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي في الأساس من صنع الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، نتيجتين لسياساته الإصلاحية الراديكالية (الأولى مقصودة، والثانية غير مقصودة). يستحق ريغان خالص الثناء لفهمه أن غورباتشوف كان نوعاً مختلفاً من القادة الشيوعيين، شخصاً يمكنه التعامل معه، بالتالي التفاوض على نهاية سلمية لصراع استمر 40 عاماً. لكن ريغان لم يكُن وراء إصلاحات غورباتشوف، ولم يكُن له دور في انهيار الاتحاد السوفياتي. والتفكير بخلاف ذلك يؤدي إلى توقعات خطرة وغير واقعية لما يمكن أن تحققه السياسة الأميركية تجاه الصين اليوم.
ما الذي فعله ريغان حقاً
من السهل الانجذاب إلى فكرة أن ريغان أسقط الاتحاد السوفياتي وفاز بالحرب الباردة، خصوصاً لأن ريغان نفسه ألمح أحياناً إلى أن هذه كانت نيته بالضبط. وأطلعني ريتشارد ألين، أول مستشار للأمن القومي لريغان، على محادثة أجراها مع الحاكم السابق [ريغان] عام 1977 بينما كان يستعد لحملته الرئاسية لعام 1980. قال ريغان: “هل تمانع إذا أخبرتك بنظريتي عن الحرب الباردة؟ أرى من وجهة نظري أننا سننتصر، وهم سيخسرون. ما رأيك في ذلك؟.
وبمجرد أن تولى منصبه، رفع ريغان الإنفاق الدفاعي، وشيّد أكبر بناء عسكري في زمن السلم في تاريخ الولايات المتحدة، وأطلق مبادرة الدفاع الاستراتيجي لإنشاء “درع فضائي” ضد الصواريخ النووية. إضافة إلى ذلك، قدم أسلحة للمتمردين المناهضين للشيوعية في أفغانستان وأنغولا ونيكاراغوا، إلى جانب مساعدة سرية غير فتاكة لحركة “تضامن” النقابية في بولندا. غالباً ما تحدث ريغان بأسلوب صارم ولهجة حازمة عن الاتحاد السوفياتي ودان بصراحة تامة انتهاكاته الفظيعة لحقوق الإنسان. وعام 1982، تنبأ بأن “مسيرة الحرية والديمقراطية” ستجعل “الماركسية اللينينية ترمى في مزبلة التاريخ.” وفي خطاب ألقاه عام 1983، وصف الاتحاد السوفياتي بأنه “محور الشر في العالم الحديث.”
إن الدليل الأكثر إقناعاً الذي يشير إلى أن ريغان كانت لديه استراتيجية لهزيمة الاتحاد السوفييتي، وهو دليل يستشهد به أنصار النهج الصارم تجاه الصين اليوم، يتمثّل في قرارَي الأمن القومي التوجيهيين اللذين رُفعت السرية عنهما، والصادرين عن مستشار الأمن القومي لريغان، ويليام كلارك، في 1982 و1983. دعا قرار الأمن القومي التوجيهي رقم 32 (NSDD 32) الولايات المتحدة إلى “ثني السوفيات عن مغامراتهم” من خلال “إجبار الاتحاد السوفياتي على تحمل عبء نواقصه الاقتصادية، وتشجيع التوجهات الليبرالية والقومية على المدى الطويل داخل الاتحاد السوفياتي والدول الحليفة”. في المقابل، أطنب قرار الأمن القومي التوجيهي رقم 75 (NSDD 75) في الحديث عن الحاجة إلى “أن نعزّز، ضمن الحدود الضيقة المتاحة لنا، عملية التغيير في الاتحاد السوفياتي نحو نظام سياسي واقتصادي أكثر تعددية تتضاءل فيه قوة النخبة الحاكمة المميزة تدريجاً.”
من السهل إيجاد صلة مباشرة بين السياسات التي عبّر عنها القراران التوجيهيان 32 و75 والأحداث الملحمية التي أعقبت ذلك بعد بضعة أعوام فحسب وبلغت ذروتها في نهاية الحرب الباردة. في الواقع، إن بول كينغور وباتريشيا كلارك دورنر، مؤلفَي سيرة ويليام كلارك اللذين يكنّان له إعجاباً كبيراً، وصفا هذين القرارين بأنهما “التوجيهان اللذان حققا الفوز في الحرب الباردة.”
الصراع الداخلي
إن الواقع أكثر تعقيداً بكثير من هذا السرد المبسط. قال لي جورج شولتز، وزير الخارجية في عهد ريغان: “قد يكون من المغري أن ننظر إلى الوراء ونقول ‘كانت لدينا هذه الاستراتيجية العظيمة، وكان كل شيء مفهوماً ومخططاً له’، بيد أنني لا أعتقد بأن هذه هي الحال حقاً. الأقرب إلى الحقيقة هو أننا كنا نتبع نهجاً عاماً يقوم على ‘تحقيق السلام عن طريق استخدام القوة'”.
في الواقع، إن الروايات التي تركز فقط على نهج ريغان الصارم تجاه الاتحاد السوفياتي خلال ولايته الأولى تُغفل جانباً كبيراً من الصورة. فنهجه لم يكُن ثابتاً، بل كان يتأرجح بين الصرامة والمصالحة. وغالباً ما كانت سياسته الخارجية مزيجاً معقداً من المواقف المتشددة والمواقف الأكثر ليونة، إذ تأثرت بتناقض غرائزه والنصائح المتباينة التي تلقاها من مساعديه المتشددين، مثل كلارك، ووزير الدفاع كاسبار واينبرغر، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام كيسي، ومن مستشاريه الأكثر براغماتية، مثل شولتز، ومستشاري الأمن القومي روبرت مكفارلين وفرانك كارلوتشي وكولن باول.
في تعامله مع السوفيات، كان ريغان منقسماً بين رؤيتين متعارضتين باستمرار. فمن ناحية، كانت هناك المعاناة الإنسانية وراء الستار الحديدي: بعد لقاء مؤثر في المكتب البيضاوي في الـ28 من مايو (أيار) 1981، مع يوسف منديليفيتش، وهو سجين سياسي تم الإفراج عنه أخيراً، وأفيتال شارانسكي، زوجة المنشق السوفياتي المسجون ناتان شارانسكي، كتب ريغان في مذكراته: “اللعنة على هؤلاء الوحوش المجردين من الإنسانية. يُقال إن [شارانسكي] أصبح وزنه 100 رطل فحسب وهو مريض جداً. وعدت بأنني سأفعل كل ما بوسعي لإطلاق سراحه وسأفعل ذلك”. من ناحية أخرى، كان هناك شبح الدمار النووي إذا خرجت المواجهة الأميركية- السوفياتية عن السيطرة. وأصبح هذا الخطر واضحاً لريغان من خلال محاكاة عسكرية نووية تحمل اسم “آيفي ليغ”، في الأول من مارس (آذار) 1982. بينما كان ريغان يشاهد من غرفة العمليات في البيت الأبيض، تحولت خريطة الولايات المتحدة بالكامل إلى اللون الأحمر لمحاكاة تأثير الضربات النووية السوفياتية. وأشار عضو مجلس الأمن القومي توم ريد إلى أن ريغان “نظر في حال من الذهول وعدم التصديق. في أقل من ساعة، شاهد الرئيس ريغان اختفاء الولايات المتحدة الأميركية… لقد كانت تجربة مروعة”. بالتالي، كانت سياسة ريغان تجاه الاتحاد السوفياتي أقل اتساقاً مما يعترف به معظم معجبيه. وعلى رغم أن اجتماعاته مع المنشقين السوفيات دفعته نحو المواجهة، إلا أن معرفته بما ستنطوي عليه الحرب النووية جعلته يميل نحو التعاون.
لم يكن ريغان وراء إصلاحات غورباتشوف، ولم يكن له دور في انهيار الاتحاد السوفياتي
على رغم أن عدداً كبيراً من معجبي ريغان أشار إلى أن قرارَي الأمن القومي التوجيهيين 32 و75 كانا بمثابة إعلان حرب اقتصادية ضد الاتحاد السوفياتي، إلا أن ريغان حاول مراراً تخفيف الضغط الاقتصادي على موسكو. ففي أوائل عام 1981، ألغى الحظر على تصدير الحبوب الذي فرضه الرئيس جيمي كارتر في العام السابق رداً على الغزو السوفياتي لأفغانستان. وعندما أعلن النظام المدعوم من السوفيات الأحكام العرفية في بولندا في ديسمبر (كانون الأول) 1981، فرض ريغان عقوبات صارمة على بناء خط أنابيب الغاز السيبيري إلى أوروبا الغربية. ومع ذلك، رفعها في نوفمبر التالي بسبب اعتراضات الحلفاء الأوروبيين. وقد شعر الصقور بالإحباط من استعداد الرئيس للتخلي عن واحدة من أقوى الأدوات الاقتصادية الأميركية من دون الحصول على أي تنازلات في المقابل. وكتب نورمان بودهوريتز، رئيس تحرير مجلة “كومنتري” Commentary، في صحيفة “نيويورك تايمز” في مايو 1982، معبراً عن هذا الإحباط تحت عنوان “معاناة المحافظين الجدد بسبب سياسة ريغان الخارجية”. وشكا بودهوريتز من أن رد فعل ريغان على فرض الأحكام العرفية في بولندا كان أضعف حتى من رد فعل كارتر على الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979: “في حين أنه من السهل أن نتذكر أن كارتر فرض حظراً على الحبوب وقرر مقاطعة أولمبياد موسكو، فمن الصعب حتى أن نتذكر ماهية عقوبات ريغان”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان المحافظون سيشعرون برعب أكبر لو علموا أن ريغان كان يتواصل سراً مع الكرملين في ذلك الوقت. ففي أبريل (نيسان) 1981، أرسل ريغان رسالة بخط اليد مليئة بالمشاعر إلى الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، يعرب فيها عن رغبته في “حوار هادف وبناء يساعدنا في الوفاء بالتزامنا المشترك لإرساء سلام دائم”، وفي مارس (آذار) 1983، بعد يومين من وصفه الاتحاد السوفياتي بأنه “الإمبراطورية الشريرة”، طلب الرئيس ريغان من وزير الخارجية شولتز في محادثة خاصة غير علنية، الحفاظ على قنوات التواصل مع السفير السوفياتي أناتولي دوبرينين. في الواقع، كان ريغان يأمل في لقاء زعيم سوفياتي منذ بداية رئاسته وأعرب عن أسفه خلال فترة ولايته الأولى قائلاً إن قادة السوفيات “يستمرون في الموت واحداً تلو الآخر”.
في الحاضر، ينسب عدد كبير من المعجبين إلى ريغان الفضل في تبني استراتيجية محسوبة جمعت بين الضغط والمصالحة. بيد أن هذا النهج لم يحقق نتائج كبيرة خلال ولايته الأولى، بل أربك القادة السوفيات. في هذا السياق، كتب دوبرينين في مذكراته لعام 1995 “في ذهنه، كان من الممكن أن تكون مثل هذه التناقضات موجودة بتناغم تام، لكن موسكو اعتبرت هذا السلوك في ذلك الوقت دليلاً على النفاق والعدائية المتعمدة”.
وعام 1983، حدثت سلسلة من الأزمات المتصاعدة، بما في ذلك إسقاط السوفيات لطائرة مدنية كورية، وإنذار سوفياتي كاذب بإطلاق صواريخ أميركية، ومناورات عسكرية لحلف “الناتو” (حملت اسم “إيبل آرتشر”) رآها بعض المسؤولين السوفيات بمثابة غطاء لهجوم أميركي استباقي، مما زاد الخوف من اندلاع حرب نووية إلى أعلى مستوياته منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. وأدرك ريغان أن خطر نهاية العالم “هرمجدون” كان حقيقياً جداً، فخفف عمداً من مواقفه المتشددة. في يناير (كانون الثاني) 1984، ألقى خطاباً تصالحياً تحدث فيه عن مدى تشابه المواطنين السوفياتيين العاديين “إيفان وأنيا” مع المواطنين الأميركيين العاديين “جيم وسالي” ووعد بالعمل مع الكرملين في سبيل “تعزيز السلام” و”الحد من كمية الأسلحة.”
كانت المشكلة أن ريغان لم يكُن لديه شريك للسلام في ذلك الوقت. خلال ولايته الأولى، قاد الاتحاد السوفياتي بالتتابع الزعماء المتشددون المسنون ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف وقسطنطين تشيرنينكو. وعندما توفي تشيرنينكو في مارس 1985، وجد ريغان أخيراً زعيماً سوفياتياً يمكنه العمل معه وهو غورباتشوف الذي كان بمثابة “بجعة سوداء” صعدت إلى قمة نظام استبدادي لتفكيكه.
الانهيار غير المتوقع
عادةً ما يركز الذين يدّعون أن ريغان أسقط “الإمبراطورية الشريرة” على صعود غورباتشوف باعتباره نقطة تحول، ويعزون الفضل إلى الرئيس الأميركي، وتعزيزه للقدرات الدفاعية، في التأثير في قرار الاتحاد السوفياتي باختيار شخص إصلاحي أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفياتي. المشكلة في هذه النظرية هي أنه في أوائل عام 1985، لم يكُن أحد، حتى غورباتشوف نفسه، يعلم إلى أي مدى سيصبح مصلحاً راديكالياً [إلى أي مدى سيتطرف في إصلاحاته]. ولو كان زملاؤه في المكتب السياسي يعرفون ذلك، لما اختاروه على الأرجح، إذ لم تكُن لديهم أية رغبة في إنهاء الإمبراطورية السوفياتية، أو التخلي عن سلطتهم وامتيازاتهم.
ولم يكُن غورباتشوف راغباً في إصلاح النظام السوفياتي من أجل التنافس بصورة أكثر فاعلية مع القدرات الدفاعية التي بنتها إدارة ريغان، بل العكس هو الصحيح. لقد كان قلقاً حقاً من أخطار الحرب النووية، ومصدوماً من حجم الأموال التي كان الاتحاد السوفياتي ينفقها على مجمعه الصناعي العسكري: ما يقدر بنحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و40 في المئة من موازنة الدولة.
ولم يكُن هذا نتيجة لأزمة تسبب بها ريغان وهددت بإفلاس الاتحاد السوفياتي، بل كان نابعاً من غرائز غورباتشوف الإنسانية. وعلى حد زعم المؤرخ كريس ميلر: “عندما أصبح غورباتشوف أميناً عاماً عام 1985، كان الاقتصاد السوفياتي يعاني الإسراف وسوء الإدارة، لكنه لم يكُن في أزمة”. وكان بوسع النظام السوفياتي، بعد أن نجا من الإرهاب الستاليني والمجاعة والتحول نحو الصناعة، فضلاً عن الحرب العالمية الثانية والتخلص من الستالينية، أن ينجو من ركود منتصف الثمانينيات مثلما فعلت أنظمة شيوعية أخرى أقل ثراءً مثل الصين وكوبا وكوريا الشمالية وفيتنام.
لم يكُن انهيار الاتحاد السوفياتي أمراً حتمياً، ولم يحدث نتيجة لسياسات ريغان التي هدفت إلى زيادة الإنفاق العسكري وتقليص النفوذ السوفياتي في الخارج، بل نجم بصورة غير متوقعة وغير مقصودة عن الإصلاحات الراديكالية المتزايدة التي نفذها غورباتشوف، بخاصة سياسة الـ”غلاسنوست” [الانفتاح وإنهاء الرقابة وإدخال حرية التعبير والصحافة] والـ”بيريسترويكا” [إعادة بناء وهيكلة النظام السياسي والاقتصادي]، على رغم اعتراضات رفاقه المحافظين الذين حاولوا أخيراً الإطاحة به عام 1991. ولم ينهَر الاتحاد السوفياتي لأنه كان مفلساً اقتصادياً، بل لأن غورباتشوف أدرك أن الاتحاد مفلس أخلاقياً ورفض إبقاءه متماسكاً بالقوة. ولو تولى أي عضو آخر في المكتب السياسي السلطة عام 1985، لبقي الاتحاد السوفياتي موجوداً ربما، وجدار برلين قائماً، تماماً مثلما لا تزال المنطقة المنزوعة السلاح تفصل كوريا الشمالية عن كوريا الجنوبية. وعلى رغم أن ريغان لم يكُن هو الذي حث غورباتشوف على الإصلاحات، فإنه يستحق الثناء على تعاونه مع الزعيم السوفياتي في وقت كان معظم المحافظين يحذرون من أن الرئيس كان يتعرض للخداع على يد شيوعي ماكر.
لم يكُن ريغان وغورباتشوف متفقين على كل شيء. فقد اختلفا حول حقوق الإنسان في الاتحاد السوفياتي ومبادرة الدفاع الاستراتيجي التي كان ريغان يحبها. ولكن على رغم الانتكاسات الموقتة، وقّع الزعيمان أول اتفاق للحد من الأسلحة يلغي فئة كاملة من الأسلحة النووية، وهو معاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى (آي أن أف)، في واشنطن عام 1987، وفي 1988 سافر ريغان وعائلته إلى موسكو. وخلال الزيارة، بينما كان الزعيمان يتجولان في الساحة الحمراء، وجّه سام دونالدسون من شبكة “أيه بي سي نيوز” ABC News سؤالاً إلى ريغان: “سيدي الرئيس، هل ما زلت تعتقد بأنك في إمبراطورية شريرة”، فأجاب ريغان: “لا. كنت أتحدث عن زمن آخر وحقبة مختلفة”.
ممارسة الضغوط لا تؤدي إلى السلام
هناك أدلة قليلة تشير إلى أن الضغط على الاتحاد السوفياتي خلال فترة ولاية ريغان الأولى جعل السوفيات أكثر استعداداً للتفاوض، في المقابل يمكن إيجاد أدلة كثيرة تثبت أن تحركه باتجاه التعاون مع غورباتشوف في فترة ولايته الثانية سمح للزعيم السوفياتي الجديد بإجراء تغييرات وتحولات في بلده وإنهاء الحرب الباردة. ومع ذلك، يخلط كثير من المحافظين بين نجاح ريغان في ولايته الثانية وإخفاقاته في ولايته الأولى، مما يؤدي إلى تطبيق دروس سياسية خاطئة في العلاقات مع الصين الشيوعية اليوم.
في الواقع، إن تصعيد المواجهة مع بكين من دون أي اعتبار للعواقب يخاطر بإعادة إحياء المخاوف من الحرب التي دفعت العالم إلى حافة الكارثة عام 1983، وهذه الاستراتيجية لديها فرص أقل للنجاح في الوقت الحاضر. حتى لو لم يكُن الاتحاد السوفياتي على وشك الإفلاس، كان اقتصاده ضعيفاً في ثمانينيات القرن الـ20، بسبب التخطيط المركزي الشيوعي وانخفاض أسعار النفط العالمية. أما الصين، فنجحت في الجمع بين اقتصاد السوق الحرة والقمع السياسي لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وأشار الصحافي فريد زكريا إلى أن اقتصاد الاتحاد السوفياتي كان يمثل نحو 7.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في ذروته، في حين تشكل الصين اليوم نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ولا توجد سياسات يمكن للولايات المتحدة تنفيذها بصورة معقولة “لتهزم” الصين، ومن الصعب معرفة حتى ما تعنيه “هزيمة الصين”. لكن من السهل أن نتخيل أن السياسات الصارمة التي لا هوادة فيها من جانب الولايات المتحدة والصين قد تزيد من خطر نشوب حرب نووية.
ينبغي على الولايات المتحدة أن تستمر في احتواء العدوان الصيني وردعه وتقييد تصدير التكنولوجيا الحساسة ودعم حقوق الإنسان في الصين مع الاستمرار في الحوار مع القادة الصينيين من أجل تقليل خطر نشوب حرب. كان هذا هو النهج الحكيم تجاه الاتحاد السوفياتي الذي اعتمده رؤساء الولايات المتحدة من كلا الحزبين خلال الحرب الباردة. لكن يجب على واشنطن ألا تتوهم بأنها تستطيع تغيير الصين، فالشعب الصيني هو الوحيد القادر على فعل ذلك. إن المواجهة الحالية مع بكين لا يمكن أن تنتهي إلا إذا خلف شي جينبينغ زعيم إصلاحي حقيقي على غرار غورباتشوف. وما لم يحدث هذا السيناريو البعيد المنال، فإن اتباع نسخة مشوهة ومنحازة من سياسة ريغان تجاه الاتحاد السوفياتي من المحتمل أن يجعل العالم مكاناً أكثر خطورة.
مترجم عن “فورين أفيرز” 6 سبتمبر (أيلول) 2024
ماكس بوت هو باحث رفيع المستوى في مركز جين ج كيركباتريك لدراسات الأمن القومي في مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب ” ريغان: حياته وأسطورته”.
إضافة تعليق